الجمعة، 20 ديسمبر 2013

شرك الربوبية


مقدمة
يعد شرك الربوبية من أهم وأخطر المواضيع التي تناولها القرآن الكريم، إذ أنه لا يظهر جلياً بل يتواجد بدون أن يشعر به المؤمن. ولقد أرسل الله سبحانه وتعالى الرسالات السماوية لدعوة الناس لتوحيد الله عن شرك الربوبية ، ولم يكن شرك الألوهية والذي يعني أن مع الله خالق آخر محط دعوة ونقاش أولئك المرسلين على مر التاريخ.
    
إلى من يرسل الله الرسل؟
لا يرسل الله الرسل للملحدين الناكرين لوجود الله، ولم يكن هدف الرسالات نهي الناس عن شرك الألوهية (بالمعنى الحرفي للكلمة)! فعندما يرسل الله سبحانه وتعالى رسول فلا يرسله لمعالجة مشكلة الألوهية بمعنى أنه يرشد الناس إلى من هو الخالق؟ ومن هو الإله؟ ولكن موضوع الرسالة الأول هو مشكلة الربوبية، فالأنبياء تأتي لتذكر الناس بما أنزله الله سبحانه وتعالى من كتب سماوية ومن أوامر ربانية.

نظرة على قريش
أصل رسالة النبي محمد كانت موجهة لأهل الكتاب،أهل التوراة والإنجيل،وما كانت دعوته لقريش إلا حدث عارض، تماماً كنبي الله موسى، حيث أن أصل دعوته كانت لبني إسرائيل، وما كانت وقوفه أمام فرعون إلا حادث عارض على أصل دعوته
. ولقد كانت قريش تعرف الله وتعبده ،ولو سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن الله، لكن مشكلتهم هي أنهم كانوا يعبدون الملائكة باعتبارها واسطة بينهم وبين الله، وسموا الملائكة بأسماء إناث وجسدوها على شكل أصنام. كانت قريش تعرف الله ولا تنكر وجوده كما ويعرفون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وليس موضوع الألوهية بجديد عليهم.



شرك الربوبية شرك خفي غير معلن
توجهت الرسالات لإظهار حقيقة شرك الربوبية ومعالجته وهو الموضوع الذي أولته رسالة القرآن أهمية كبرى لأهل الإسلام واليهود والنصارى.لذا فإنه من الجدير بنا أن نعتني بفهم هذا الموضوع الذي يقع فيه من يقع دون أن يدرك الفتنة .تعال لنفهم هذا الأمر من بعض آيات الله، لندرك حقيقة هذه المشكلة.

شاهد من القرآن
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64))
يقول النبي محمد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى باننا لسنا مختلفين في كلمة التوحيد
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) فهذه كلمة نتفق عليها جميعاً ،ولكن تعالوا لنتفق على شيء آخر وهو أنه : (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)) كلمة "من دون الله" تعني من غير أن يأمر الله بذلك، فكل شيء خارج أمر الله غير مقبول.وهنا الحديث عن شرك الربوبية الذي جاء النبي ليعرفه لأهل الكتاب وليس شرك الألوهية بمعنى أنهم في الحقيقة لا يعتقدون أن مع الله خالق آخر، لكنهم اتخذوا معه أرباب في الحكم والشرع.
إذاً حقيقة المشكلة أن هناك من يقول "لا إله إلا الله" في الظاهر ولكنه عند الله مشركٌ !وليس المقصود بالشرك هنا أن تعبد إله آخر وتتوجه له بالسجود والركوع ولكن في أن تعطي ما لله لغير الله .
وهنا نريد أن نؤكد على أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث تلك الرسل لأقوام تنكر وجوده من الأصل،أو لأناس تتخذ إله آخر مع الله بمعنى خالق آخر، وإنما بعث الله تلك الرسل ليصحح المفاهيم والعقائد التي أدخلت الناس في الشرك الخفي بدون أن يشعروا بذلك.


شرك الربوبية عند أهل الكتاب
من خلال فهمنا لصفة الرب نريد أن نفهم الشرك الذي يقع فيه بعض الناس عندما يتخذون رباً آخر غير الله. إذ علينا أن نضع القاعدة التالية: هي أنه لا يوجد شرك في الألوهية أي لا أحد يعتقد أن هناك إله خالق آخر مع الله ولكن الشرك في الربوبية (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61((لا أحد يعطي صفات الألوهية لأحد غير الله ، مثل ما كان النبي يتفق مع اليهود(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64((الكلمة السواء أن العبادة لله وأن الله هو الإله، ولكن المشكلة لدى اليهود أنهم كانوا يشركون بالله في نفس الوقت الذي يعتقدون فيه بوحدانية الألوهية فقد أعدهم القرآن مشركون ! فكيف ذلك ؟ ذلك حين يعود بالربوبية في الحكم لغير الله .

)ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24((وفي الواقع المعاش لا يوجد مشرك يقر أنه مشرك، لأنه وحد الله في الألوهية واطمئن بهذا ، ولا يعرف أن حقيقة الأمر أنه أشرك في الربوبية حين أشرك في الحكم أي أنه جاء بحَكم آخر غير الله سبحانه وتعالى والله لم يأذن بذلك! عندما تقول لأي أحد أنت مشرك، يقول لك لماذا تتهمني بالشرك وأنا موحد بالله؟ علينا أن نعلم أن الشرك فتنة كبرى لدرجة أن المشرك يأتي يوم القيامة وهو يقسم بالله ويقول أنني لست مشركاً.

ما حكمة ملة إبراهيم؟
عندما نعيد الدين لملة إبراهيم فنحن نرجع الدين لأصله حتى نكتشف الزيادات والشوائب التي إضيفت عليه،هناك من يظن أن الله أرسل الرسل بديانات مختلفة،وهذا غير صحيح فالديانة واحدة. بل إنه يكفي أن يرسل الله سبحانه وتعالى رسول واحد للبشرية بحيث يرسل معه كتاب واحد ويتبعه الإنسان وكفى.ولكن الهدف من الرسل مع كثرتهم أنهم كانوا يعيدون الأقوام اللاحقة للأصل الذي جائت به الرسل الأولى. إن مطلب سيدنا إبراهيم من الله سبحانه وتعالى هو أن تكون النبوة في ذريته، وكان الغرض من ذلك المطلب أن يكون من ذريته من يحفظ الدين من التغير والتبديل الذي يحصل على مر الأزمان.
(وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124))
كان سيدنا إبراهيم يريد التذكير بالملة وبالدين حتى لا يتم الإنحراف عن الأصل الذي أسسه وجعله لله.فإذا قيل ملة إبراهيم فلابد وأن يأخذ الدين اللاحق سمة الدين السابق الذي وضع أساسه إبراهيم الخليل، وهنا تتجلى أهمية هذه الملة.

أهم خصائص الربوبية
شرك الألوهية شرك بيّن،أما شرك الربوبية فهو شرك خفي خادع،فبالوقوع فيه يكون المؤمن موحد بالظاهر ولكن تصرفاته تقول غير ذلك.نحن نطلب من الله كل شيء،الرزق والعون في الشدة والرخاء ونطلب منه الشفاء، والله سبحانه وتعالى يعطينا من كل ما سألناه ولكننا عندما نحكم قد نحكم بغير الله ! لا يمكن أن يكون هناك صاحب ملك ولا يحكم ، وهنا تكمن المشكلة.

مثال من مواقف النبي في التوحيد الربوبي
كان أهل الكتاب يعرضون على النبي محمد أحكاماً شرعية غير تلك التي أمره الله بها في الكتاب فيكون رده :
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (114))
ويقول:
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا)
معنى أن الله لم يجعل لهذا الكون رب غيره، أنه سبحانه لم يجعل من يحكم في الدين وفي الشرع أحد غيره. قد يكون من المالك أن يعطي إدارته لأحد آخر ويعطي تصرف مملكته بيد أحد آخر،فنقول أنه أعطى الربوبية أحد غيره،لكن الله سبحانه وتعالى لم يفعل ذلك،فهو صاحب الملك وصاحب الحكم.
صانع الشيء أقدر على وضع الشريعة لصلاح ماصنع،الله يحدثنا أنه هو منزل الكتاب، وفي الكتاب أوامر الله للإنسان فلو اتبع لإنسان هذه التعليمات سيصلح نفسه وسيصلح الأرض،لأن الله هو الخالق وهو القائم على هذا الكون،عندما يقول للمرأة المطلقة تربصي 4 قروء فهو أدرى بخلقه وليس لأي أحد فهم في ذلك كما يفهمه سبحانه.هنا تكمن الربوبية في الحكم،فالله سبحانه هو الحكم.

كيف تتجلى المشكلة؟
لا يقول المسيحيون أن عيسى إله ولكنهم يقولون أنه رب أو يتعاملون معه على هذا الأساس، فالمشكلة أننا أعطينا الربوبية لمن نحب من أهل البيت أوالصحابة ، الكتاب هو حكم الله وكلمات الله وهذه الكلمات ليس لها تبديل،وتمام الإيمان بهذه الكلمات هو أن لا نجعل لها ند باتخاذ كتاب آخر.والندية تتجسد في أن نعطي شيء ما  نفس مانعطيه لله من قوة الطاعة وبدون أمر من عند الله. وما كان سجود الملائكة لآدم إلا سجدة بالله وليست من دون الله (أي بأمر من عند الله).

أرباب من دون الله
لو كان لأحد أن يأخذ رباً فلابد وأن يكون بالله أي بإذن الله،فإن أمر الله أن نأخذ من كلام أحد فيجب أن نأخذ به وسيكون ذلك بمثابة الرب الذي أخذناه بالله (أي بأمر الله)،ولكن عندما يقول لا تأخذ إلا من الكتاب فأي شيء نأخذه من خارج الكتاب سيصدق عليه أنه "من دون الله".
(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79))
ليس هناك نبي أوتي الكتاب والحكم والنبوة يقول للناس خذوا الأحكام من عندي أو أن يقول  لدي شريعة خاصة أو أن يأتي بكلام غير الذي أمره الله به في الكتاب فمهمة النبي هي أن يوصل الكتاب وأوامره للناس.والنبي محمد لم يأت لأهل الكتاب لكي يقول لهم اعبدوا الله على أساس أنهم لايعرفون الله ،لأنهم يؤمنون بالله في الأصل،ولكنه جاء لهم ليعالج مشكلتهم في أنهم لم يقيموا الكتاب.جاء النبي محمد ليتحدث عن شرع الكتاب الذي عطلوه ولكي يعيد الدين لأصوله في الكتاب،ولكي تعود الربوبية في الحكم لله.
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44))
ليس الشرك هنا شرك في معرفة الألوهية ولكنه شرك ربوبية لأن الحكم كان بغير ما حكم الله.

الحكم لله
كمال التوحيد أن نجعل الحكم لله.تماماً كما نوحد الله في الدعاء فيجب أن نوحده في الحكم. انظر كيف نوحد الله في ساعة الذروة في لحظة الحاجة سندعو "يا الله"،لذا وجب أن نطلب الحكم من الله ولا نقبل الحكم من غير الله. إن من يعطى شيئاً من الحكم فقد أوتي الربوبية ،وليس لأحد أن يحكم من غير الله، فالله أدرى بالصناعة التي حكمها في خلقه.
ليس لأحد القدرة على أن يحكم هذا الكون غير الله. وعليه نريد الانتباه الشديد للشرك وعلينا أن نتعرف عليه لنتجنبه. لا أحد يشرك في الحقيقة بذات الله. تأمل في المسيحي الذي جعل لله ولد، هو يقول لا إله إلا الله ولكن مشكلته أنه جعل لله أرباب كثيرة،نحن عرفنا معنى كلمة إله، ومن ذلك نفهم أن المسيحي الآن قد يشرك بالصفات على الرغم من أنه يوحد في الألوهية.
لذا فإننا بحاجة لمعرفة هذه المفردات حتى نتعرف كيف يتحدث الله سبحانه وتعالى وحتى نفهم كلامه، وقد قلنا هنا أن كلمة "رب" تعني الفاعل للأعمال وليست مجرد اسم ، لو أعطينا أي عمل من هذه الأعمال لأحد آخر غير الله وبدون اذنه نكون بذلك أشركنا بالله والعياذ بالله.فلو أعطينا أحداً ما صفة الحكم أو شيئاً من إمكانية اصدار الحكم فقد جعلناه شريكاً لله ولدخلنا بذلك في عالم الشرك من حيث لا نشعر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق