الاثنين، 23 ديسمبر 2013

الأمانة




الأمـــانــة
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72))
ماهي الأمانة؟ لو أن أحداً عزم على أن يسافر وقال لأحد أقرباءه خذ أولادي عندك وفي رعايتك،فإنه خلف الأولاد أمانة لدى ذلك الشخص.الأمانة هي الأرض، الله سلم الأرض أمانة للإنسان.ليس المقصود بالأرض أنه سلمه التراب والجبال والجماد،ولكن المقصود هو أهل الأرض والمخلوقات التي على الأرض.عندما نقول أن بلدة ما قررت قرارا ما فإننا نقصد أن أهل تلك البلدة قرروا،عندما نقول أن السعودية قالت، فليس المقصود أن تراب السعودية هو الذي نطق ولكن يعني الناس التي تعيش في السعودية هم الذين قالوا.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38))
عندما خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام خلق معهما كل شيء وكان من ضمنها المخلوقات "كل المخلوقات" ومن بينها الانسان،خلق الله سبحانه وتعالى الكون من ملايين السنين، ويبين العلم الحديث أمر مهم وهو أن هناك آثار للإنسان منذ فترات قديمة جداً،فقد وجد العلماء هياكل عظمية تعود إلى فترة زمينة بعيدة، ودل التحليل على أنه كان قبل ملايين السنين،أي قبل 500 مليون سنة أو أكثر! وعندما نحاول أن نقدر الفترة الزمنية التي جاء فيها آدم فإن أبعد تقدير لفترة حياته أنه كان يعيش قبل 10 آلاف سنة ،ولو أردنا أن نبالغ في هذا الرقم وبعد التجاوز في الكلام سنقول أن آدم عاش قبل 20 ألف سنة وذلك على أبعد تقدير.ولكن العلم يشير إلى أن هناك وجود للإنسان قبل ملايين السنين! إن هذه الحقيقة العلمية تسير مع أجواء الحدث الذي نريد أن نستعرضه من القرآن في أمر الأمانة التي حملها الإنسان.
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72))
عرضت الأمانة على جميع المخلوقات على الأرض وكان الانسان أحد تلك المخلوقات ، كان العرض للمخلوقات وليس للجمادات،وعرضت الأمانة على جميع المخلوقات في السماء والأرض، وكل مخلوق من هذه المخلوقات سأل هل تحمل الأمانة فكانت الإجابة من الجميع بالرفض إلا الانسان فقد قبل بأن يحمل الإمانة!وكان الإنسان في حينها مثله مثل أي مخلوق في الأرض بدون امتيازات وبدون تفضيل،بعد هذا الاختيار جمع بني البشر "الإنسان" فجيئ بالإنسان وجمعه الله سبحانه وتعالى وأحصاه وأجرى معه لقاء هام بناءاً على قبول تلك الأمانة.
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172).
في هذا اللقاء الذي جمع فيه كل بني آدم ،بترتيب خاص كما هو موصوف في الآية أن من ظهره ذريته أي أن الأب موجود والجد وهكذا، أخذ من ظهورهم ذريتهم أي جعل كل جيل صف خلف آباءه، فالناس واقفون حسب تسلسلهم في النسل، فخلف الرجل ابنه وخلف الابن ابن الابن وهكذا، وأمام الرجل أبوه وأمام الأب الجد وهكذا حتى آدم. الكل واقف في هذا المشهد أمام الله.فهنا المشهد الأول والذي يقر فيه كل فرد منا بعدم معرفته بأبيه أو أجداده وأنه لا أنساب بين أحد في الحقيقة، فلا علاقة بين آدم وبين قابيل وهابيل،وكذا لا رابط حقيقي بين كل جيل والجيل الذي بعده.كل واحد أمامه ابنه وأمامه أباه ومن غير ولاده، في موقف مع الله سبحانه وتعالى، لم تكن البشرية قد تشكلت كعوائل وأنساب ولا نعرف بعضنا البعض! وبعد أن يرى كل انسان هذا التوزيع ويرى حقيقة الأمر في عدم وجود صلة حقيقية يتم السؤال لجميع بني البشر:ألست بربكم؟ في هذا اللقاء المصيري والمهم جداً ونحن في حالة الخلق الأولى،فيجيب جميع بني البشر بقولهم:بلى شهدنا،فيقول لهم الحق عز وجل:
(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)
هل ترى هذا الصف هل ترى من هو أمامك؟ لقد أقررت بنفسك وقلت لا أعرفه، فانظر إلى من هو خلفك وأقر بنفسك أن لا علاقة لك به (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) نحن لم نخلق في هذه الدنيا فرادى؟لكننا نزلنا عوائل وأسر،ولكن تلك الحياة الأولى كانت(فرادى) في حقيقتها، وسنعود مرة أخرى إلى نفس الحالة وهي حالة (لا أنساب بينهم) سنعود بعد ذلك في يوم القيامة بمثل حالة الخلق الأول أي بدون نسب، وكم خدعنا في هذه الدنيا بالقرابة وكم تركت تأثيرها علينا في اتخاذ القرارات والمواقف في الحياة الدنيا،فنرى أن الابن يكون دينه هو دين الأب بشكل طبيعي وبدون أي اجتهاد في الدين، والله سبحانه وتعالى يريد أن يأخذ عهد على الإنسان بأن لا يقول في يوم القيامة أنني غفلت عن ربي بسبب آبائي.

لا حجة على الله
يحذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نحتج يوم القيامة بحجة وهي أن أبي كان مشركاً لذا أنا أصبحت مشركاً، فالأصل أنه لا علاقة لأحد بأبيه، وعلى الإنسان أن يخرج بنفسه وينظر هل أباه على صواب أم لا! خليل الله ابراهيم هو المثل الأبرز في هذا لأنه تمكن من التفكير باستقلالية تامة. لماذا نخرج إلى هذه الدنيا متمسكين بشدة بما كان عليه آباؤنا؟ هنا في هذه الآية اتفاقية مع الإنسان الذي قَبل الأمانة في أن يكون حراً ولا يحتج بحجة النشأة والمجتمع والآباء.

ما يقوله الله حقيقة
سيُلغى هذا الموقف من ذاكرة الانسان حتى يمتحن في الحياة،فلا أحد منا يتذكر هذا اللقاء!عندما نؤمن بالله علينا أن نصدق أن هذا الكلام قد وقع،وهذا الكلام حجة علينا،عندما يقول الله فقوله آية وتكون كأنك رأيته بعينيك،أنت رأيت آية،فكلام الله يقين في كل الأحداث التي تحدث بها في كتابه العزيزفكأنك شاهدتها بنفسك،لذا اعتبر نفسك أنك رأيت إحياء الموتى مع إبراهيم الخليل حين ذبح الطير، وكأنك رأيت أفضل من رأي العين كيف فعل الله سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل وهكذا مع كل آيات القرآن الكريم. لقد كنا أحياء في ذلك اليوم الذي قررنا فيه المصير، وسيجعلنا بعد ذلك الموقف خلفاء في الأرض وسيسخر لنا كثير من المخلوقات وسيختبرنا بعد أن يعطينا الكرامة والخلافة. وخلاصة الاتفاق هو أن الله يشهدنا أنه ربنا بعيداً عن تأثيرات الحياة الاجتماعية وبدون اتباع الآباء.

ابحث عن الحقيقة بنفسك
علينا أن نجعل هذا الاتفاق نصب أعيننا، فلا نتبع الآباء،ولا ندافع عن الذي كانوا عليه ، أو نبقى عليه دون تفكير. المشكلة أن قاعدة الناس في حياتنا الراهنة هي الاتباع الأعمى للآباء والله سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نعيش بهذه القاعدة أو أن نتعامل بها،لا يحق لأحد أن يقول يوم القيامة:يارب أنت الذي جعلتني كافراً لأن أبي كان كافراً، فلو كنت ابن رجل مسلم لكنت مسلماً!وكم نتسائل دائماً :ما ذنب الأطفال الذين يولدون من غير المسلمين؟ما ذنبهم وهم لم يعلموا أين الحقيقة؟ نزلنا إلى الدنيا على الاتفاق مع الله بأن أي حجة في أن الآباء كانوا هم السبب في ما نحن عليه هي حجة مرفوضة ويجب على المرء أن يكون مستقلاً ويبحث عن الحقيقة بنفسه.

الموتة الأولى
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28))
الموتة الأولى ليست في ذاكرتنا ولا نشعر بأننا كنا مخلوقين قبل هذا وأنه قد عرضت علينا الأمانة.نحن قبلنا بالأمانة بعد أن رفضتها بقية المخلوقات.وأعيد خلق آدم وبني آدم من نوع فاخر من الطين وهو الطين الفخار الذي يحمى على النار،فالأشياء الأجود تصنع بشيء أفخم،الله سبحانه وتعالى خلق الانسان من طينة فاخرة النوع.
(خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14))
خلق الإنسان مرة ثانية بطينة فاخرة وهذا ما نلاحظه كاختلاف في نوع بشرة الانسان إذ أنها بشرة فاخرة غير بشرة المخلوقات الثانية.
( مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7))
الله سبحانه وتعالى عدل خلق الانسان الى الأفضل بعد موقف العهد ذاك .ومن ثم تم تحديد نسب كل فرد بالتسلسل الذي فيه عقب لكل إنسان، بحيث أنه عندما يتم إعادة خلق الإنسان عن طريق الولادة سيأخذ كل واحد منا وضعه وضعه الطبيعي في سلسلة النسب التي قررها الله له في الحياة الدنيا.

توحيد لله في الدعاء وشرك في التوريث
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190))
المرأة حملت حملاً خفيفاً أي أنها في بداية الحمل وفي أشهرها الأولى،فلما أثقلت أي أنها وصلت في شهرها الرابع دعوا الله ربهما وكان دعاؤهما لله نابع من أنهما يعرفان الله حق المعرفة على أنه هو ربهما لذا فهما يتوجهان له بالدعاء.عندما انجبت الأم ولدها
( جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا )
أي أنهما علما هذا الولد أن لله شريك،أي أنهما علماه شيء آخر غير الله ، على الرغم من أنهما دعوا الله ربهما بإخلاص.فهذه الآية تشير إلى كيف يورث الآباء لأبناءهم الشرك على الرغم من أن دعاءهم عندما يدعون يكون خالصاً لله. ثم تشير الآية إلى الشركاء وأنهم ميتون :
(أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195)

الله سبحانه تعالى لا يتعامل مع الناس بعلم الغيب
الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع الناس بعلمه بالغيب في حقيقة ما سيكون عليه الانسان بالإيمان أو الكفر في بعد دعوته للحق،فمثلا عندما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى إلى فرعون قال:
(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44))

على الرغم من أنه سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون سيكفر ولكنه سبحانه لا يتعامل بعلمه بما سيكون من فرعون،وهذا بغرض أن يظهر الحق ولكي يطبق معه العدل.لو أن أحد تاب من شيء سيتعامل معه على أنه تائب حتى وإن كان يعلم أنه سيعود إلى جرمه،الله يتعامل مع الإنسان بكلامه إلى أن يصدر منه الخطأ مع علمه بالغيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق