ملخص:
الإحسان لمن أحسن، العفو لمن أساء ثم الإحسان لمن أساء وهي أعلى المراتب، هي مراحل أخلاق إيمانية وبدايتها التخلص من الغل، والتخلص من الغل يحتاج إلى معرفة حقيقية في أين تكمن المصلحة . أما العفو فليس طبع غالب على المؤمن ينسيه الصلاح في الأرض، لكنه سجية من سجاياه التي تمكنه من العفو في مواطن الترفع عن الندية.
الإحسان وأخلاق النبوة
أخلاق النبوة أعلى وأرقى بكثير في مستواها من أخلاق المؤمن العادي، وفي موضوع الإحسان فإن فالإحسان لمن أحسن هي الدرجة الأولى من درجات الإخلاق ،وهي الشيء المنطقي التلقائي في التعاملات البشرية والتي تندرج تحت قاعدة (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)؟ لكن هناك درجة أعلى وهي أولى درجات أخلاق الأنبياء وهي الإحسان للمسيء، وهذا الخلق هو بدء الانطلاق للطبقة الراقية من الأخلاق.
ومن أمثلة ذلك عفو يوسف عن النسوة اللاتي كن سبباً في سجنه بضع سنين، أو عفو النبي محمد (ص) وعدم حمل قلبه للغل أبداً (ماكان لنبي أن يغل).
كيف نتخلص من الغل؟
تقول المأثورات المنقولة عن النبي (ص) أن من ينام وليس في قلبه ذرة حقد على أحد فهو من أهل الجنة. كيف لنا أن نصل إلى هذه الدرجة العالية من الأخلاق؟ وما هي الوسيلة للحصول على هذه المرتبة كونها درجة مطلوبة من المؤمن؟ الإجابة هي أن الوصول إلى هذه الدرجة علينا نبني عقولنا وقبل كل شيء بالمعرفة.
يمكن للمؤمن أن يتدرب على هذا النهج وهذا السلوك مع أخوانه المؤمنين وأن يزيل الحقد والغل من قلبه ولكن بعد أن يبني نفسه بالمعرفة الصحيحة والعلم الحقيقي.فإذا علم المؤمن تمام العلم أن الغل ليس من مصلحته،عندها سيبدأ في إزالة أي رغبة في الإنتقام أو النيل من الآخر وسيتمكن من تنقية القلب والسير في هذا الطريق.على المؤمن الساعي للارتقاء في سلم أخلاق القرآن أن يقنع نفسه بالعقل والفكر أنه كاسب بالعفو وليس خاسراً وتلك هي الحقيقة.
1- وجود الغل في قلب المؤمن يعطي الشيطان فرصة لسحبه إلى مراحل أسوأ، حيث يمكن له أن يتطور للحسد ومن ثم الرغبة في الإنتقام أو إذاء الآخرين ولو بالعين، ومن ثم الوقوع في سيئات الإعتداء ،فضلاَ عن خسران مغفرة الذنوب حين لا يعفو.
2- والعفو ليس خسارة له بل هو خسارة لمن عُفي عنه، عفو المؤمن لا يضيّع حقه، فالله يعيده يوم القيامة.إنما مَثَل ذلك كمثل أخوين اختلفا في أمر ما ثم لجآ للتعارك، ثم جاء والدهم ليعاتبهم بقوله: لماذا تعاركتم؟ كان من الأجدر انتظار قدومي لعرض الأمر أمامي فأحكم فيه! إذاً العفو هو تأجيل للحساب فقط، وإنما هذا الموقف من الذي عفا إنما هو موقف مبدأي والموقف النهائي يكون يوم القيامة (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)).
3- العفو إنفاق، والمؤمن يجد في العفو فرصة سانحة لأن ينفق فلا يتردد ولا يضيع هذه الفرصة. (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)).
4- المؤمن لا يجعل بينه وبين المسيء ندية، لأنه يشعر أنه أكبر من هذا السوء، وتلك من صفات الرقي وهي أول خطوة يخطوها المؤمن في طريق المقربين لله.
إن لم يعف المؤمن فسيخسر، وعليه يجب على كل مؤمن أن يعمل لنفسه تذكرة دائمة ومستمرة في هذا الموضوع لنيل هذا الخلق السامي، على المؤمن أن يخاطب نفسه دائماً بحاجته الحقيقية للوصول إلى مكانة أخلاقية عالية، وعليه أن يدفع نفسه دفعاً نحو العفو عن الآخرين، وأن يدع الله سبحانه بأن يعلمه كيف ينزع الغل من قلبه، ويقول لله أنت معلمي فعلمني ، حتى يصل بذلك إلى مصاف المؤمنين الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس :
( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) سورة آل عمران 134
العفو في ميزان الصلاح
يكون العفو ممدوحاً حين يكون تنازلاً عن حق خاص ولا تأثير له على الصلاح العام للمجتمع، فمن يسيء للآخرين أو يتسبب لهم بضرر في شيء من ممتلكاتهم الشخصية عن خطأً يختلف عمن يسيء باستهتار و تعمد. والعفو في الحالة الثانية يكون دفع نحو الفساد، أما عقاب المسيء الذي يتوقع منه تكرار الإساءة للآخرين يكون عون على الإصلاح. فلو أحد أذى مؤمناً من غير أن يكون له تأثير على الصلاح فالمؤمن يعفو عنه، إذ لا فائدة ترتجى من الإقتصاص في الحقوق الخاصة غير شفاء الغل المتغلغل في ثنايا الصدر.
مثال :
1- يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه ويأمره بالعفو عن أهل الكتاب الذين أرادوا له ولقومه الضلال:
(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109))
( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13))
2- عندما فتح المسلمون مكة، ودخل المشركون في الإسلام، حصل العفو عنهم. لكن حين اعتدوا بعد ذلك ، وكان لاعتدائهم تأثيرعلى واقع الدين ومستقبله أمر الله بقتالهم:
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ
(193))
( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14))
الله سبحانه وتعالى لا يحب القتال ولو أنهم لم يعتدوا الإعتداء الثاني بعد العفو لم يـأمر الله بقتلهم وشفاء الصدور منهم. ولكن هنا لأن المسألة تتعلق بصلاح الدين أمر بالقتال وشفاء الصدور. فالمؤمن لا يرضى بإفساد الدين الذي هو عليه والإضرار بالآخرين.