ماهو التقدير؟
التقدير هو مسافة بين
نقطين، إذ لا توجد نقطة تقدر لوحدها. والتقدير هو
أساس الأخلاق، ويتجسد التقدير في حفظ المسافات وعدم تضييعها، وبتضييع المسافات
يضيع التقدير ونتيجة لذلك يضيع الخلق.
أولاً
: تقدير الإنسان بين المخلوقات
(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ
مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ).
الآية تتحدث عن تقدير
الإنسان مع بقية المخلوقات، وتشير أن هذا المثل يهدي كثير ويضل كثير. وهي تؤكد قاعدة مهمة من القواعد التي لو ضاعت من المؤمن فلن
يفهم أشياء كثيرة، ولن يصل إلى حقائق القرآن والآخرة، هذه القاعدة هي أن الإنسان
متساوي في قدره بقية المخلوقات، والآية تؤكد على أن الإنسان إذا لم يعرف أصله سيقع
في الضلال.
كل المخلوقات متساوية في القدر، والآية تعطي التقدير على هيئة سؤال: (ما بعوضة فما فوقها)؟ ، وبالتالي فإن تقدير الإنسان هو أنه متساوٍ مع بقية المخلوقات.عندما قال الشيطان (أنا خير منه) هو يتحدث في سياق فقدان هذه القاعدة، ووقوعه في الفتنة التي تحذر منها الآية.
إذاً كل المخلوقات متساوية في وترجع إلى أصل واحد
ما الفرق بين الإنسان وبين
البعوضة؟ لا شيء! فإذا علمنا ذلك حق المعرفة، علينا أن نتأمل في البعوضة، ما قدرها
بالنسبة لك الآن؟ هي شيء حقير يسحق بلمسة يد ويذرى في الجو بنفخة هواء !
من الممكن أن يتأثر القلب لقتل أي حيوان كالكلب أو القط أو أي نوع من الأنعام وهكذا فإن قيم الأشياء تعلو حتى تصل إلى شدة التأثر لفقدان إنسان. ولكن عندما نقتل بعوضة فالقلب لا يتأثر لها ، وعلينا هنا أن نتعلم شيئاً مهماً ، أن البعوضة وما فوقها من المخلوقات هم في مقدار واحد .
قد تختلف مراكزنا في الحياة الدنيا على أساس مناصب إدارية أو ماشابه، ولكن ذلك لا يعني أن القيمة الحقيقة للإنسان تتغير، هي ذاتها ، كذلك بالنسبة للإنسان مع بقية المخلوقات ، وكذلك بقية المخلوقات مع البعوضة.
ثانياً : تقدير الإنسان مع الله
قد يقع الإنسان في خطأ تقدير الله سبحانه وتعالى من خلال الانخداع
بحفظه لتقدير الله، فقد يقدر الإنسان الله حق قدره، ولكنه يخدع في تقدير نفسه، أو
يتلاعب فيه ، إذا كان تقدير الإنسان مع بقية البشر هو التقدير الأفقي أي أنه
يتساوى مع بقية المخلوقات في القدر، فإن تقدير الله هو مسافة رأسية، وأي تغيير في
أي طرف من طرفي هذه المسافة فقد يؤدي ذلك إلى خطأ التقدير.
يقول الله سبحانه وتعالى :
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ
قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ
قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ
يَلْعَبُونَ)
وقد نتساءل اين التقدير في هذه الآية ؟ أي ما علاقة تقدير الإنسان
لربه بنزول الكتاب؟ وهذا هو نتيجة لاختلال المسافة بين الإنسان وبين الله سبحانه
وتعالى، وهذه نقطة مهمة في موضوع التقدير ، لأن قد يقع في هذه الخدعة، بأنه لا
ينزل الله من قدره ومكانه، ولكن الخدعة أنه يقصر المسافة بين الرسل وبين الله
سبحانه وتعالى. فتقترب المسافة بين الإنسان وبين الله ويختل التقدير
قدر الرسل تقدير هو أنهم بشر ، ولكن عندما نرفع الرسل عن البشرية
فإننا نقصر هذه المسافة بين البشر وبين الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء جعلوا موسى
أعلى من تقديره الحقيقي! وجعلوه أعلى من البشر ويأتي في قدره بعد الله مباشرة لا
مساوياً لبقية البشر .
الاية توضح أن إيمان اليهود من أهل الكتاب بالتوراة هو على أساس أن من
جاء بالتوراة وهو موسى أعلى من البشرية، أي أن إيمانهم بالتوراة مرتبط بمكانة
موسى، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول أن موسى كان بشراً ، وعندما تم العبث في قدر
موسى برفعه عن البشرية، فردت الآية (ماقدروا الله حق قدره)، لأن هذا الاعتقاد هو
إخراج نبي الله موسى من قدره يعني إنقاص في قدر الله مباشرة، لأن المسافة بين الله
وبين هذا البشر نقصت، المسافة بين الله وبين البشر تظل ثابتة، وإلا فإن العبث في
هذه المسافة يؤدي إلى إنقاص قدر الله سبحانه وتعالى.
وقول بني إسرائيل، إنما أنت بشر مثلنا، إنما يريدون بذلك أن أوصافك لا
تتساوى في القدر مع قدرة الرسل كما جاء في علمنا، وهذا يكشف أنهم أخرجوا موسى من
قدره الطبيعي بعقائدهم ومخيلاتهم بما هو مخالف لطبيعته البشرية، فلم يؤمنوا برسالة
النبي محمد لأنه لا يحتل نفس المكانة.
ثالثاً : ما يصلح الإنسان
على المؤمن أن يقدر نفسه بشكل صحيح بالنسبة لهذا الكون العظيم، مع بقية المخلوقات أولاً ، ومع الله ثانياً ، وقد جاءت آيات كثر في توضيح حقيقة الإنسان لأن في ضياع هذه الحقيقة منه ضلال كبير:
1- ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كثيرا )
2- ( الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ )
رابعاً : غرور الإنسان
أدى غرور الإنسان بنفسه أن جعل لله ولد من الإنسان، بينما يقول الله سبحانه وتعالى لو (أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء).
بمعنى لو أراد الله أن يتخذ ولداً فيمكنه أن يتخذ من أي من المخلوقات الأخرى وليس من الضروري أن يتخذ من صنف البشر، أي أن الإنسان كمخلوق مثله مثل المخلوقات الأخرى، لماذا تصور الإنسان أنه جنسه هو الذي يستحق البنوة من عند الله دون بقية الأجناس والمخلوقات ؟ على الإنسان أن يعلم أنه فضل بتفضيل الله وليس بسبب منه. فالله قادر على أن يجعل الإنسان بعوضة ، وفقدان الإنسان لمعرفة قدره مصيبة أي مصيبة.
خامساً : القدر والأخلاق
من يعرف قدره بين من يعيش بينهم يقال في حقه أنه يعرف قدرالأخرين أو أنه يقدر الآخرين حق قدرهم، لذا تظهر عليه ملامح الأخلاق بينهم ، لذا فإن أساس الأخلاق بين الإنسان وبين بقية الناس مرهون بمعرفة هذه القاعدة حق المعرفة وهذه المعرفة ليست أغنية نتغنى بها أو كلام نتحدث به وندعيه بل عليه أن يظهر ويتجسد في سلوكياتنا وتصرفاتنا. ويتضح ذلك أكثر في عمل السيئات! هل أخاف من حساب الله وعقابه لي أم اجعل لنفسي ميزة في أن الله سوف يغفر لي؟ على الإنسان أن لا ينس انه لو عمل سيئة فالقانون يسري عليه كما يسري على غيره، لذا فإن المؤمن يطلب النظرة كي يسمع ويطيع ولا يقع في الذنوب مرة أخرى، والمؤمن لا يأمن مكر الله، لا يأمن أن يأخذه الله قبل التوبة لأن الله لا يميل لأحد بهوى
على المؤمن أن يكون من أوائل الناس الذين يجيدون تقدير الذات، وأن يحذر من أن يقع في خطأ تقديره لنفسه لأن القانون واحد يقع على الجميع بدون تفريق.
سادساً : نتائج
1- قد تكون حقيقة المثل في الآية ( ما بعوضة فما فوقها ) أنه يقصد نبي الله عيسى بشكل ضمني، أي ما الفرق بين عيسى وبقية المخلوقات، وهذا ما يجعل مقدمة الآية ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة ) أي أن الله لا يستحيي أن يقارن بين عيسى وهذا المخلوق الضعيف ولكن النبي محمد قد يستحي أن يضرب هذا المثل أمام محبي نبي الله عيسى.
2- كل من يفسق، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل يعطي قيمة لمخلوقات أعلى من قيمتها الحقيقية كما يضع البعض إلى أنبياء أو أرباب من دون الله ، فيجعلونهم في مكانة غير المكانة الحقيقية أي يضيعون القدر والمسافة بينهم وبين الله، وهذا ما يؤسس للباطل، والأخذ من دون الله.
3- قد يعطي الإنسان لنفسه أيضاً قدر غير القدر الحقيقي، ويتصور أنه مختلف عن بقية البشر ولا يناله الحساب من قبل الله لأن له الحظوة والمكانة المقربة منه سبحانه، فيقول: أن الله لن يعذبني، ولن يعاملني كبقية البشر.
4- المشكلة أن الناس تعاملت مع النبي عيسى كذات ، ولم
تتعامل معه كرسول، وعندما نعامل القمم العليا في الدنيا نعرف القواعد بشكلها الصحيح، فلا نتعامل مع الرسول بأكثر من كونه رسولاً إلى جهة أعلى منه، فما هو غير موصل من طرف إلى طرف آخر وليس له من الأمر شيء.
5- لكي يعرف الإنسان فضل الله عليه لابد وأن يعرف أصل الخلقة التي كان عليها، ومن يعرف هذه الحقيقة لا يفترض ولا يقول أنه أفضل من الناموس.
6- التقدير على مستويين، الأول الإنسان مع بقية البشر (مابعوضة ) ، والثاني الإنسان مع الله( ماقدروا الله ) ، وفي كلاهما يقع الإنسان في الفتنة.
7- يفتتن الإنسان في ( مابعوضة ) بأن يظن أنه غير بقية المخلوقات.
8- يفتتن الإنسان ولا يقدر الله حق قدره، حين يبقي الله في مكانته العالية ولكن يرفع من قدر بعض البشر فيقربهم من الله ويرحل نقطة تقديره إلى نقطة أعلى فتقصر المسافة بينه وبين الله ، وإذا قصرت المسافة يضيع تقدير الله، وهذا ما يحصل للناس في تقديرهم للرسل.
سابعاً : بعض المخلوقات في القرآن الكريم
كيف تساوت بعض المخلوقات في القرآن الكريم مع بعض المخلوقات في الإحياء والموت والشعور.
1- الهدهد : ذكر الهدهد في قصة نبي الله سليمان، وقد أحاط الهدهد بعلم لم يعلمه سليمان.
2- الغراب : الله بعث غراباً، جاء في مكانة رسول تماماً كما يقول للأنبياء، كمخلوق يبعث.
3- الطيور مع نبي الله إبراهيم : عندما سأل نبي الله عن طريقة إحياء الموتى، كانت الإجابة خذ أربعة من الطير، وفي هذا مساواة في الخلق.
4- النملة : شعرت بالخوف من الموت، وكأنه تماماً شعور إنسان. وقد رد نبي الله سليمان فتبسم ضاحكاً فقد وصلته مشاعرها ولكنه يشعر بالتفضيل فقط بناءاً على المسؤولية التي أسندها الله إليه.
5- الحمار: في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فإحياء الحمار هو نفس إحياء البشر، لا يعني أن هناك فاصل بين المخلوقات في هذا الشأن.
6- البعوضة : في قوله تعالى ( ما بعوضة فما فوقها ) في هذا إشارة إلى أن قدر الإنسان هو قدر البعوضة في الخلق، ما لم يصل الإنسان إلى هذا الإحساس يصل إلى الضلال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق